خمسة جنيه (قصة قصيرة)
خمسة جنيه .. في
الصباحِ الباكرِ، ذهبتُ إلى المستشفى الحكومي في المدينة بناءًا على توصية الطبيب
المعالج بسبب معاناتي من أعراض الرشح في الأنف والكحةِ الجافةِ الخفيفةِ وتكسير
العظام دون ألم يمنعني عن الخروج والعمل. لكني اضطررت بعد مرور خمسة أيام من تناول
أدوية الأنفلونزا الشائعة التي تباع في الصيدلية أن أذهب، ليلة أمس، إلى طبيبٍ خاص
بعد عودتي مباشرةً من العملِ مُنهك القوى، وغير قادرٍ على التنفس بشكلٍ سليمٍ.
لذا، فلقد قام الطبيب بفحصي وهو يستمع إلى شكواي ويسأل عن أسماء الأدوية التي
تناولتها طيلة الأيام الخمسةِ الماضية.
واضح أنها اشتباه كورونا
كورونا؟ بس أنا بقدر أشم.
أخبار التذوق إيه؟
مش بستطعم الأكل، كنت فاكرها انفلونزا عادية.
نظر إليَّ الطبيب متفحصًا بينما يده تكتب الأدوية المطلوبة، “هذه
الأدوية تستمر في تناولها لمدة أسبوع مع الراحة التامة والعزل ثم تعاودني”.
هبط كلام الطبيب على رأسي كالصاعقة. فأنا أعتمد في رزقي على الأجر
الذي أتلقاه من العمل اليدوي. راحة وعزل معناهما أن لا أجر. فكيف سأدفع ثمن الدواء
والطعام الضروري حتى أتماثل للشفاء وأعود للعمل؟ راحة وعزل؟ كيف العزل والشقة التي
أسكنها مكونة من غرفة واحدة للنوم، وغرفة للمعيشة، وحمام صغير واحد تستخدمه
الأُسرة كلها؟
استمر الطبيب في النظر إليَّ وكأنه يقرأ حيرتي ثم أخرج ورقة أخرى غير
التي وصف فيها الدواء وبدأ يكتب. “في المعتاد أطلب من المريض تحليل صورة دم كاملة C.B.C، وتحليل C.R.P، مع أشعة مقطعية على الصدر حتى نعرف إلى أي
مدى وصلت الإصابة بالفيروس. بالطبع هذا ضروري. لكن التحاليل والأشعة عالية السعر.
فالأفضل عملها في المستشفى الحكومي الليلة، مع تسجيل اسمك هناك كمصاب حتى إذا ما
دعت الحاجة لدخول المستشفى للعزل أو لتوفير أنبوب أكسجين أو سرير في العناية
المُركزة –لا قدر الله– لا تحتاج لعمل إجراءات طويلة ومعقدة”.
غادرت العيادة والوجوم يغطيني. ابتعت الدواء من الصيدليةِ القريبةِ
لكي يراجعه الطبيب، ثم توجهت، ومعي الدواء والروشتة وطلب التحاليل والأشعة، إلى
مستشفى الصدر القابعة على حدود المدينة سيرًا. استقبلني في المستشفى هدوء الليل
والتومرجي في زيه الأبيض، ومعه موظف في ملابسٍ عادية. أخبرتهما ما قاله وطلبه
الطبيب. فقام التومرجي بوضع الترمومتر (مقياس الحرارة) تحت
إبطي، وطلب مني إبقائه للحظات، ثم أخرج جهازًا صغيرًا يشبه المشبك ووضع أصبعي فيه.
الحرارة 38، والأكسجين 96، بسيطة إن شاء الله!
طيب، التحاليل والأشعة المطلوبة؟ خمسة
جنيه
لأ. مش ينفع بالليل. المعمل للأسف مقفول فتعالى الصبح الساعة 9.
ثم طلب الإداري الهوية ليقوم بتسجيل بياناتي في الدفاتر، وغادرت.
باكرًا عُدت، في سيارةِ أُجرة هذه المرة. فاستقبلني ضجيج إصلاحات
المباني المجاورة للمستشفى، والموظفون، والسيارات المتناوبة في الحضور، ونفس
التومرجي بزيهِ الأبيض وقد طلب مني الانتظار لحين وصول أخصائي التحاليل. عدد
الوافدين يتزايد. هذا يطلب دواءًا من مُمرض، وذاك يسأل عن الطبيب المُعالج، وتلك
تطلب من أحدهم أن يشتري لها إفطارًا من خارج المستشفى. أبوابًا كانت موصدة تُفتح.
وأنا أنتظر في الممر الخارجي إلى أن تم فتح باب المعمل. حجرةٌ صغيرةٌ مُكدسةٌ فيها
الدفاتر والأوراق تتوسطها منضدة خشبية وكرسي جلست عليه من توقعت أنها الأخصائية
المُنْتَظَرَة.
صباح الخير،عايز أعمل التحاليل والأشعة في الورقة دي.
هاتلي تأشيرة دكتور المستشفى، مع العلم أننا في انتظار المهندس يصلح
الجهاز.
سألت عن الطبيب المختص، فأشارت الأخصائية على غرفةٍ منعزلةٍ في الساحة
الخارجية يَسُد بابها عددٌ من المرضى، وفي مدخلها يجلس رجلٌ يلبس جلبابًا أصفر
اللون يتسلم منهم التذاكر ليكتب بياناتهم ويجهزها لحين وصول الطبيب. قدمت له
الروشتة وورقة طلب التحاليل والأشعة، فطلب مني أيضًا الانتظار. وقفتُ في الفناء
الخارجي أتمعن في المرضى المنتظرين بدورهم. لفت انتباهي عجوز في حوالي الستين من
عمرها ترتدي الثوب الأسود الفلاحي. كانت مترددة ما بين الإقبال على الرجل ذو
الجلباب الأصفر والإدبار. بعد مرور دقائق، يبدو أنها استطاعت أن تلملم شجاعتها
فاقتحمته متساءلة:
هو الكشف هنا تذكرته بكام؟
اتنين جنيه.
طيب أنا بطني وجعاني، أقطع تذكرة؟
هِنا صَدرية يا حاجة، اطلعي بره في القصر واقطعي باطنة.
تذكرتها باتنين برضه؟
لع، تذكرتها بخمسة. وبتشتري الدوا من بره.
بخمسة؟ أجيبها منين الخمسة؟
هزت يديها في حيرةٍ ثم غادرته، وغابت بسرعة داخل المستشفى.
أخيرًا جاء الطبيب الذي كان يرتدي بنطلونًا من القماش وقميصًا خفيفًا
قصير الأكمام، وينتعل شبشبًا من الجلد أسود اللون. مر عرض المرضى على الطبيب
بسرعة. استمع لشكوى هذا، وقاس حرارة تلك، وراح يكتب الأدوية لكل منهم في تذكرته
بينما لا زالوا يتحدثون. عشرُ دقائق مرت وانقشعت الغيمة. المرضى تفرقوا بعدما
استلموا تذاكرهم. بعضهم ذهب إلى شباك الصيدلية ينتظر صرف الدواء المجاني، والبعض
توجه إلى معمل التحاليل أو إلى الخارج لشراء نوع دواء غير موجودٍ في صيدلية
المستشفى أوصى به الطبيب في قصاصةِ ورقٍ. ثم جاء دوري. دخلت إلى الطبيب وقدمت له
ما معي من أوراق أطلب توقيعه لإجراء التحاليل المطلوبة.
"الدكتور كاتب هنا كل الأدوية، مش محتاج
تحليل".
"لأ، الدكتور مأكد وكاتب أني لازم أعمل التحاليل، وهنا في المستشفى.
الدكتور خايف ليحصل مضاعفات".
أكد التومرجي أنه قد تم تسجيلي في الدفاتر أمس مساءًا (اشتباه
كورونا). فأمسك الطبيب قصاصة ورق كتب فيها نوع تحليل واحد (C.B.C)، ثم مَهَرَهَا بتوقيعِهِ
وختمه الشخصي طالبًا مني التوجه إلى المعمل.
اتفضلي، توقيع الدكتور على طلب التحليل.
زي ما قلتلك، الجهاز عطلان ولسه مستنيين المهندس.
طيب، قُدامنا كتير؟ خمسة جنيه
معرفش، المهندس ييجي ونشوف إذا هينفع يصلحه. من فضلك استنى بره، فيه
ناس تانيين في الانتظار.
بالفعل كان هناك زوجٌ وزوجتهُ ومعهما طفلًا صغيرًا ينتظرون خارج
الغرفة. جلست على مصطبة مبنية من الطوب والأسمنت يعلوها بلاطات من السيراميك في
مواجهة باب المعمل في انتظار “الفرج”. بعد دقائق كثيرة، تسليت فيها بمشاهدة الرائح
والغادي من المرضى ومن العاملين في المستشفى والزائرين، ازدحم المكان فجأة بأصحاب
الزي الرسمي للشرطة. وارتبك المسئولون عن المكان بدخولهم وانتشارهم في معظم الغرف
وقد طالبوهم بفتح دورات المياه المغلقة. وأمرونا جميعًا بالانتظار في الساحة
الخارجية حتى ينتهي المساجين من إجراء الفحوص الطبية قبل إعادتهم للسجن. قال الزوج
المنتظر مع زوجته حين دخل المندوب المعمل حاملاً ملفًا مكدسًا بالأوراق، “كويس،
كده الجهاز هيشتغل”.
خرجنا انصياعًا للأوامر، ووقفنا في العراءِ، تحت أشعة شمس أغسطس،
نستمع لضوضاء الإصلاحات في المباني المجاورة، وننظر لسيارات الترحيلة يتدفق من
أبوابها الصغيرة المساجين شباب ورجال حليقي الرؤس مربوطي الأيدي يسيرون في
ثنائياتٍ للداخلِ، يحوطهم رجال الشرطة وجنود الأمن المركزي من كل اتجاه. استمر
وقوفنا لأكثر من ساعة حتى بدأ الفوج يتدفق أفراده في دُفعاتٍ متتاليةٍ، بغير
انتظام، عائدين لرتل السيارات المنتظر في الخارج، وقد فهمنا أنه لم يعد في الداخل
سُجناء حين بدأ رجال الشرطة والجنود المصاحبين في الانسحاب من أماكن تمركزهم وركوب
السيارات التي زمجرت حين دفس سائقوها المفاتيح فيها وأعطوها الإذن بالتشغيل.
بمجرد خروجهم، وبدء تحركهم، اندفعنا للداخل مطالبين بسرعة الانتهاء من
التحاليل نظرًا للإرهاق البادي على وجوهنا. “لسه والله في إيدي شغل بيتعمل، شغل
ميري لازم يخلص وأسلمه للأمين علشان يلحق الرَكب اللي هيتحرك”. أجابتنا الأخصائية
وهي تكتب في الأوراق الكثيرة التي أمامها، وجهاز التحاليل على يمينها يعمل ويُظهر
على شاشته الصغيرة الحمراء أرقامًا تتغير كل دقيقة دون حاجة لمجيئ مهندس الصيانة.
"نُص ساعة بالكتير وأخلص، وأخد منكم عينات
الدم، ارتاحوا لو سمحتم".
افترشتُ المصطبةَ الصلبة الرطبة، وأخرجتُ الموبايل من جيبي أحاول
الإنشغال به ليمر الوقت، لكن الزمن استطال واستعرض ومر ثقيلاً على صدري حتى انفجرت
في مكتب الطبيب المدير الشاب، “احنا مش هنخلص حضرتك في يومنا؟، احنا موجودين من
الصبح من قبل ما تيجي الأخصائية ولحد دلوقتي مأخدتش عينة الدم”.
صوتي العالي جعل الطبيب ينهض من فوق كرسيه ويخرج بعيدًا عن مكتبه
ويقترب ليحدثني بكل هدوء، “الأخصائية أديك شايف عندها إيه، ومكنش ينفع دول
ينتظروا، استنى شوية وإن شاء الله مش هتتأخروا.”
انتظرت، وأنا أكتم الغضب والغيظ، لنصف ساعة إضافية، خرجت بعدها
الأخصائية من معملها تحمل أوراقًا، ودخلت غرفة الطبيب المدير ليمهرها بتوقيعه ثم
خرجت وسلمتها للأمين في الغرفة المجاورة.
يا دكتورة، كده كتير!
خلاص، فين الحالة أخد منها العينة؟
دخلت رافعًا كُم قميصي، كاشفًا ذراعي، لتتمكن من أخذ عينة الدم.
استغرق الأمر عشر دقائق حتى خرجت منهكًا وجلست مرة ثالثة على المصطبة، وانتظرت.
خرجت الأخصائية من حجرتها وسلمتني تقرير التحليل. سألتها عن النتيجة فأشارت أن
أذهب للطبيب “وهو هيقولك فيه إيه”.
عُدت للغرفة الخارجية المنعزلة ذات السقف الخشبي والأرضية غير
المستوية أطلب مقابلة الطبيب غير الموجود، كان في مدخلها الرجل ذو الجلباب الأصفر
جالسًا، وكانت العجوز ذات الثوب الأسود الفلاحي تقف قبالته وبيدها تذكرة للكشف،
طلب مني الرجل الانتظار، فانتظرت، وأنا ألعن المرض والفقر، وشفقة الطبيب الخاص
الذي أوصى بأن آتي لهذا المشفى. أتى الطبيب لتدخل العجوز أولاً ثم تخرج بعد ثوانٍ
وفي يدها الأمر بصرف أدوية كتبها طبيب الصدر، على التذكرة، والمرأة تُمسك ببطنها.
ثم دخلت أنا، ومددت يدي بالتقرير، “تمام، نسبة بسيطة. خد الدوا اللي كتبهولك
الدكتور وإن شاء الله تخف”.
والتحليل التاني؟ والأشعة يا دكتور؟
لا، لا. ده مش عندنا هنا. لو ضروري روح الحُمِّيات، بس مش ضروري.
يعني هنا مفيش تحليل تاني ولا أشعة؟
لأ، مفيش غير صورة الدم. عايز روح الحُمِّيات.
خرجت من الغرفة أضرب أخماسًا في أسداسٍ على الوقت والمجهود وأجرة
الطريق التي صرفتها بلا فائدة، وقد رأيت في طريق الخروج العجوز الحيرى ذات الثوب
الأسود الفلاحي تقف في طابور صرف الدواء المجاني وهي تُمسك بيديها جنبات بطنها
متألمة.
تأليف /أسامة الأديب
اقرأ أيضًا
#قصة
#خمسة_جنيه
#أدب
#كورونا
تعليقات
إرسال تعليق