أوز أوز

 

أوز أوز

            
                                           حبيبها … لست وحدك حبيبها (العندليب) 

 

(أ)

أنت عمري”… وأنا طوال عمري ما عرفت مثلك في المشاعر ثائر. رميتني بآهات حبك وأغرقتني في فيض من الأشواق هادر. فكيف لي أنا غير المغامر. الساكن على شاطئ حياتي ودائماً أبدو مسافر. ألا أموت حين أراك بعد الذي كان والذي كنا نرغب أن يكون تعلن أنك مغادر؟!

الكتابة شفاءٌ للنفس العليلة. فيها تتجسد المشاعر شخوصاً على الورق فتسهل المقاومة. أقتلها حروفًا على ورق دفتري. أطفئ تلك النيران التي تستعر بوقود الأفكار. تنزل حروف الكلمات رذاذ أنبوب إطفاء لتلامس ألسنة اللهب. فيبدأ قتال الحياة والموت. لا صوت يعلو فوق صوت حب يختنق بدخان المقاومة. ودموع طفل وُلِدَ في غير زمانه بعيدًا عن مكانه وما وجد أحدًا يتعهده بالرعاية. وعندما التقى بمن أحبه، كانت قيوده قد تكلست جزءًا أصيلاً منه. فأصبح القيد هو، والألم هو، والطريق إلى الموت أيسر من الطريق إلى الحياة. فاستكانت كل ذرة إلى المصير وما عاد إيمانه إيمانه.

أنا … لم أكن أبالي في الحياة بشيءٍ، وكل ما كانت تجري حولي من خطوب وحوادث لم تكن تؤثر في هدوئي … ثائرتي لم تكن  تفور إلا قليلاً ثم تهدأ لتعود بعدها الأمور إلى ما كانت عليه في هدوء .. تماماً .. مجرى الحياة يمر سريعًا أو بطيئًا، .. إنه يجري، فهل إذا ما عاندته سيقف؟ بالطبع لا … إذن، فليجري كما يحلو له … لماذا أجري أنا معه أو ضده؟! 

فليكن ما يكون، حتى وإن ملأتني الشكوك والظنون … لحظات، وسوف تعاود الحياة المسير، أو .. سوف تستمر في سيرها لأنها لا تذهب كي تعود أو تتوقف كي تعاود … فهي أبدًا موجودة، وأبدها هذا بالنسبة لوجودي، ووجودي لا يعرف الأزل أو الأبد، فهو وجود محدود … نعم، محدود كدخلي، كمقدرتي على الفعل، كأشياءٍ كثيرةٍ حولي تحوطني منذ يوم مولدي تجعل لي حدودًا معينة لا يجب، ولا يمكن، ولا أستطيع –هكذا أظن- تخطيها.

(و)



و… كنت أظن كل هذا يوم قابلتك للمرة الأولى. فيها الشمس لم تكن كما اعتادت أن تكون أمنا الغولة التي نختبأ منها، وجلست أنظرك، أخبرك بكلمات تمردي على هذه الحياة: لو أن هذا الوجه الحسن هو الذي سأراه كل يوم. فأنا أقبل أن أعيش اليوم، والغد، وما بعد بعد الغد في مدى رؤيته. وفي محيط سطوته ورضاه.

وجهك توجه بعيدًا. سرح مع الخضرة في الأرض، وصفاء السماء، ولمعان الشمس. ونسيمٌ هفهاف تبخطر في مسيره بين خصلات شعرك الذي لم أعد أذكر لونه من كثرة ما تلون: أسود، أصفر، درجات ألوانه تنافس شمس الفصول وفترات اليوم القصير الذي فيه ما تخاطبنا.

و … مر وقت طويل من قبل أن نلتقي للمرة الأخرى، صراع الشمال والجنوب فيه أُخِذْنا ونسينا أننا بشر. ونسينا أننا نُضَيع أحلى أوقاتنا. وتخاصمنا، وتصالحنا، وضحكنا من بعد ما بكينا. لكن كان يؤسس ضحكنا كثيرٌ من الحذر. ونسينا، وتناسينا أننا… لسنا ذات المصير. ولا ذات القدر رغم أننا أكلنا من نفس الرغيف، وذات الطبق. وشممنا سوياً نفس العبق. ومضينا في حُلمٍ واحدٍ. لكننا اختلفنا في التفسير. فافترقنا، وما نسينا.

(ز)

زَمنٌ طويلٌ قد مَرَّ. زادني فيه الفراق فرقة. زال الهدوء من نفسي واستوطنتني الثورة وزاد الأرق. لم أنم لوقتٍ طويلٍ. سنون مرت، ويا لها من سنين. لم تتركني دون حنين. صوتي طوال الأيام أنين. ووقتي رنين. ودقات قلبي ما بقيت دقات. هي أصوات بلبل حزين. وضجيج مختلط. وفقاعات تعلو لتنفجر فوق الورق. فتتساقط أوراق الخريف. وتزداد الشعرات البيض في رأسي. ويكسو داخلي بياض الجليد. وعني أجدني أنصرف. فبحبك لي يومًا لم أكن … أعرف أو أعترف.

(أ)



أعترف… أني بجوارك، وحين أحدثك، أو أسمعك، أكون شخصًا مختلف. إنسانٌ يحيا الحياة، لا الحياة تحياني. أكون أنا كل المحبين على مر العصور كما أنت كل العاشقات والمعشوقات. معك أنسى ما فات، وما هو آت سيكون حتماً منك، ولكِ. حتمًا سيكون بنا ولنا، سيكون الزمن مُلْك يميننا.

أجمل إنسانة أنت، أروع بشرية، أكثرهم حباً، أقواهم شوقًا، ألطفهم، أميزهم. أوطاني عيونك، أشواقي بدونك أشواكًا تنغرز في لحمي فأدمي. ودمائي تسيل، وصوتي عويل يفضحني. فأراني نزيل جنة خيالية أسكنها. أنفاسك فيها، حروفك أراضيها. ودموعك أنهارها تجري. وعيونك شمس نهارها وقمر ونجوم لياليها.  

أفتح عينيَ في الصباح، وأغلقهما في المساء. وما بين الفتح والغلق، تحدث أشياءٌ وأشياء. أموت أنا من شوقي إليك، وشوقي يراودني صباح مساء.

أنتِ… بإعلان حبِك قد بدأتِ. وأنتهيت بإعلان أنكِ لن تكوني خارج أرض السياق. متعللةً بكونكِ قد خُلقتِ من أجل عظيم التضحيات. وقد ذهبت رغم أنك ما كنتِ بعد قد جئت، وانتظرت أنا أن أنام فاتحاً عيوني، رائيًا رُغم الظلامِ أنك في كلامك ما صدقت… أبداً وأبداً أنت قد كذبت.

أكاد أشك في نفسي… حين أشك فيك. 

أكاد أنام، أكاد أستفيق. أعيش في البين بين، وعقلي يفكر فيِ، وفي ذات الوقت يفكر فيك. أكاد، وأكاد، وأكاد… أراني فأراك، فأنسى كوني يومًا كنت هناك. أراك على شاشاتٍ مثلوثةِ الأبعادِ. وحش الأساطير القادم تهواني في عناقٍ كأجمل الأفلام كنت. وكانت نهايتي أنا بيد العنقاء. ونهاية الفيلم قُبلة يهوذا مخلوطة برنينِ الدنانيرِ وبريقٍ لذهبٍ زائفٍ. وحبٍ هو –على ما يبدو الآن- في الأصل أروع تمثيل.

أنا… أعرف، صرت، كل أسرارك. أعرف من أين ولأين تخرج نارك. أعرفك وأعرفني كما أعرف منابع ومصبات أنهارك. أعرف أيضاً أغوارك. أعماقها، أشواقها، أشواكها، وأعرف كَمَّ أشعاري التي عزفتها بقلبي فوق أوتارك. وأعرف أني كنت حبيب. وأني أحببتك دونما أدري إن كان هناك نصيب أم لم يكن. وأعرف أني أمين. أنام حزين وأتركك حتى تعودين لمساراتك. تبقى في نهر حياتك الهادئ. ولا تضيع في محيط الدنيا وبحار مشكلاتك وعواصف ما في الحياةِ من قوانين.

(و)



و… قال الحكيم

“اعلم أن النساء ثلاثة.. واحدة لك.. وواحدة عليك… وواحدة لا لك ولا عليك أما التي لك… فهي شابة جميلة لطيفة لم يعرفها الرجال قبلك… إن رأت خيرا حمدت، وإن رأت شرا سترت… (وهذه ما في منها للأسف)، وأما التي عليك… فإمراة لها ولد من غيرك، فهي تنهب مالك وتعطي ولدها، ولا تشكرك مهما عملت معها… وأما التي لا لك ولا عليك... فهي امرأة قد تزوجت غيرك من قبلك… فإن رأت خيرًا قالت هذا ما نحب… وإن رأت شرًا حنت إلى زوجها الاول… وهذه هي أحوال النساء شرحتها لك فاعلم… وإن شئت أن تتزوج فانتقي من خيرهن… وإلا فلا”.

و… حكمة الكتب هل صدقت فيك أم كذبت؟ أرى الأولى قريبة والثانية قد بَعُدَتْ… وأرى أنك في الهرب ترغب بعد أن كنت الشجاعَ الذي بشجاعةٍ أحب. ومن أجل الحب تَرَهَّبْ. أراك الآن وأنت لي ترغب ومني تَرْهَب وتهرب.

و… انتظرت. أن أعيش العمر لك، أن أكون الكل لك. أن أصير أنا المصير وأنت. فرأيتك منذ البداية عَلَيِ تكذب. تفرش الأرض وُرُودًا إليك وعند الوصول يظهر الشوك في ثناياك. وكأنني ما كنت هناك. تظهر الحقائق، حقيقة وراء حقيقة. فأنسى كلماتي الرقيقة وانفعلت. من كم كانت نيرانك التي في وجهي اندلعت. وابتعدت، ثم عدت. كي أبتعد عن كُنه ذاتي وعنك. 

و… عدنا في الزمن الأغرب والأعجب. فيه نلعب بالمشاعر. أحبك، قلتُ نعم أنا أحب، فقلتَ: لماذا جئت؟ كان سؤالك في الحقيقة منك ولك. كان السؤال إجاباته لديك. تخفي الحقيقة عني لأكتشفها. حرفًا حرفًا كالنيران أرتشفها. أنت تحب؟ نعم، لكن ليس لديك للسؤال إجابة. فحياتي منك، وحياتك لك. وأنت تخاف على حياتك. وتخافُها. وتخاف الإجابات رغم أنها كل ما لديك.

و… ابتعدنا. بعد أن منا سئمنا. وانتهينا. عاشقان وما عشقنا. صديقان وما صدَّقنا أننا يومًا ما عرفنا بعضنا. وابتعدنا ليس كما حتى كنا قبل أن بالحب اعترفنا. غريبين هكذا منذ اليوم ها نحن قد صرنا.

(ز)

زائلٌ هو كل حبٍ من أجل منفعة. وأنتِ بدوتِ عن كل شيءٍ في البداية مترفعة. ثم توالت الخطوب. واستحالت الحياة لك في لحظات متطلبات. خُلِقَتْ من لَدُنَّكِ الكثير والكثير من الضيقات: هذا ما فات .. وحيث أني لا أريد أن أكونه فيما هو آت فليكن جميعكم في علمكم. أني أحب لنفسي أن أعيش. أن أكون كل شيءٍ وغيري يأتي بعدي. ما أراه هو الذي يجب أن يكون، وأما أنتم فلتعيشوا في سكون. يكفيني أني لست أعيش بمفردي ولا لنفسي.


زينة الحياة العقل، والقلب حين يجره يرميه في السراب. يطرحه في الجنون. يجعله يعيش الصراخ همس. والحب لا يكون إلا المجون. صرت بك المجنون. وأنت لست ليلى التي تستحق. بالسمع كنت إليك أسترق متقطع الأنفاس. وكأنه باللهاث أجري إليك ألف ميل حتى أكون على مرمى البصر. هالعقل الذي كنت تسخرين منه فيك ومنك اليوم لأجلي قد انتصر.

زوروني كل سنة مرة … حرام تنسوني بالمرة”.

ها حفلة التأبين قد انتهت. وما مات من لوعة الفراق أو من نار الحب أحد.

تعليقات