حُب في زمن الثورة (رواية)
الفصل الأول
(قيـامـة)
مر الوقت بطيئًا،
وطويلاً وهو يشعر بتثاقل جسده المرتمي على كرسي المكتب وأمامه شاشة اللابتوب تظهر
عليها صورة وجه طالما عشق ملامحه. استوقفت الصورة أصابع يده التي تحرك بَكَرَةَ
"فأرة" الجهاز صعودًا وهبوطًا بينما يتصفح احدى صفحات موقع
التواصل الاجتماعي (فيسبوك). كانت الصورة للوجه في كامل زينته. الشفاه مطلية
بالأحمر الفسفوري، والعيون فوقها لون أزرق لامع برَّاق وخصلات من الشعر تغطي ربع
الوجه من الجانب الأيمن. وهي ترتدي ملابس خفيفة تُظهر أكثر مما تخفي. وكأنها
جالسةٌ في البيت وبالتحديد في غرفة نومها. الوجه كان كما عهده دائمًا، ممتلئًا
ومنيراً. والثغر باسم تضمه كأنها تتهيأ لتقديم قُبلة أو أنها تتغنج في دلالٍ كما
كانت تفعل معه في لحظات صفائهما. وعندما كانا يتقابلان في الحدائق العامة أو
المولات في أيام ثورة حبهما الأولى التي بدآها أيضًا بالتقابل في قلب ميدان
التحرير بعد الثورة.
الإطلالة تلك لم يكن
يقصد مشاهدتها. فهو لم يكن يبحث عنها ولم يكن ينتظرها. المفاجأة ألصقته بكرسيه
خاصةً عندما أدرك أن الصورة بداية لفيديو قصير لا تزيد مدته عن ثلاث دقائق، وليست
صورة صامتة. ارتعشت أصابعه وهي تعود بالمؤشر ليقف على صورة الفيديو. وترددت في
الضغط لتشغيله في انتظار هدوء دقات قلبه التي تصاعدت. وانطفاء جحيم الذكريات الذي
استعر في عقله وصدره للمرأة التي أحبها وقد شغلته عن نفسه لسنوات لا زال يعاني
وجدانه من أثرها. حتى بعد أن تركته إلى غيرعودة متذكرًا أخر كلمات كتبتها له قبل
أن تسد عليه وتغلق في وجهه كل سُبل التواصل معها. وحتى عندما ذهب إلى مكان عملها
لكي يراها، بدا وكأنها كانت تهرب منه حيث لم يكن يجدها رغم إحساسه بقربها ووجودها
في محيط المكان.
كان بالفعل مهووسًا بها.
لا يأكل، لا ينام، لا يفعل أي شيء دون أن تتخلله ذكراها. يذكر أنه كان يومًا
سائرًا هائمًا في شوارع وسط القاهرة في إحدى فترات مخاصمتهما، وقبل الصُلح الأخير.
ذلك الصلح الذي جاءت بعده بفترة القطيعة شبه النهائية. فهو لا يزال يأمل بعد مرور
السنين الوصال، ويرفض من أجلها الارتباط نهائيًا دون أن يُعلن السبب لمن حوله حتى
ظنوا به الظنون. حينها كان يتلمس السير في بعض الأماكن التي ترددا عليها معًا. لكي
يرى ولو طيفها. أو لعله يراها حقيقةً. ثم فجأة انتبهت كل حواسه عندما اشتم رائحة
عطرها المميز الذي كان يعشقه ويثيره. فوقف في وسط الرصيف أمام المحال وفتارينها
يتلفت حوله كالمجنون باحثًا عنها، ذهب يمينًا ثم يسارًا باحثًا عن خيطٍ يتتبع به
الرائحة حتى يصل لصاحبتها. تمنى أن يمتلك قوة وقدرة أنف كلب في تتبع الرائحة
والوصول إليها. وقف في حيرته وقتًا طويلاً لا يعرف إلى أين كان ذاهبًا. وقف ليملأ
صدره بعطرها حالمًا أن تكون هي بالحقيقة قد مرت من هنا. وها هو يشاركها بعض الهواء
الذي عبقته بأنفاسها العطرة. حين أخبرها عن هذه الحادثة بعد فترة قالت، "أنت
بقيت مجنون بيا يا حبيبي"
كانت أخر كلماتها معه
مكتوبة في رسائلها من صفحتها التي حذفته منها فيما بعد. وهو ما زال يحتفظ بها
ويعاود قراءتها من حينٍ لآخر يبحث فيها عن أمل العودة:
·
ممكن اسألك سؤال
بس تجاوبني بصراحة؟
·
اتفضلي
·
انت بتفكر فيَّ
ازاي؟
·
مش فاهم!!
·
يعني ... انت
شايفني واحدة محرومة ومحتاجة علاقة ولا شايفني ازاي؟
نكأ السؤال جُرحًا
غائرًا في علاقته بها. علاقة بدأت ثائرة بين شاب قادم من الجنوب يقابل فتاة قاهرية
تعرف كيف تكون جميلة، رقيقة، وعذبة. عملا سويًا في نفس المكان. لاحظت هي إعجابه
بها وتقربه فعليًا منها. واندهشت كثيرًا من ابتعاده الكلامي عنها وعدم تصريحه لها
بحبها. أو حتى تلميحه به رغم كل محاولاتها في دفعه لذلك. كانت تشعر باهتمامه
الزائد بها، وبتفاصيل حياتها. يدعوها للإفطار معه، يطمئن إن كانت قد أكلت شيئًا
خلال اليوم إذا لم تشاركه إفطاره البسيط خاصةً حين أخبرته أن الطبيب وجدها مصابة
بالأنيميا ونصحها بأنواعٍ معينةٍ من الطعام كان هو مُغرَمٌ بها ويتناولها على
الدوام. حين تقدم لخطبتها طبيب، قررت أن تصارح أمها بحقيقة مشاعرها. فقررت الأم أن
تزورها في العمل لترى بنفسها ذلك الحبيب الصامت المجهول. ولتعرف إن كان يبادل
إبنتها الحب أم لا. أو بالأصح إن كان راغبًا في الارتباط بها أم أنها مجرد خيالات.
هذه الأحداث لم يعلم هو
عنها شيئًا إلا بعد حدوثها بسنوات. حين صرحت هي له بها. فقط يذكر أنه منذ رآها أول
مرة حين كانت تزور مع مديره في ذاك الحين بلدته بالجنوب أحبها. وحين علم أن مكتبه
سيكون أمام مكتبها، لم يتردد في قبول العمل رغم ضَعْفِ المقابل المادي المعروض عما
يتحصل عليه من أعماله في بلدته. لكنه كان قد قرر الرحيل وأصر عليه بحثًا عن ترقي
وظيفي وفرص لحياة أفضل في عاصمة البلاد. حيث الفرص والسلطة والسطوة. وحين ذهب إلى
هناك، وتسلم عمله، أراد أن يضع كل مجهوده في العمل ليُبرِز كَّمْ هو متميز ويستحق
هذه الفرصة -هذا إن كان ثمة فرصة- خاصةً وأن حصوله عليها جاء بعد صراع طويل.
وشكاوىَ تم تقديمها ضد من اختاره مما عطل انتقاله بعض الشهور قبل أن يتم بالفعل.
لم ينسى إعجابه بها ولكنه كان قد قرر إرجاء فكرة الارتباط نظرًا لظروفه المادية
والأسرية. ولعدم وجود من يمكنه الاعتماد عليه في مساعدته للزواج. لذلك انشغل
بالعمل، وبالسفر، وأغلق على ما في قلبه فمه دون أن يخبر به أحد... أي أحد.
قالت له فيما بعد
"ماما شافتك وشكرتك يومها على اهتمامك بيَّ، وبعد ما مشيت قالت لي أنك مش
بتفكر فيَّ خالص وإن أنا ولا على بالك نهائي.. صحيح الكلام ده؟"
بعد هذه المقابلة غير
المرتب لها من جانبه، وإن كانت مدبرة من أمها، أصرت الأم على زواجها من الطبيب
الشاب الذي كان مسافرًا للعمل في دولة خليجية. وأقنعتها بذلك. فتمت الخِطبة في وقت
كان يعاني هو فيه من مشاكل وصراعات بدأت تدب في عمله. ولأنه لمرةٍ أخرى بدأ يشعر
بالضجر من المكان الذي يعمل فيه. وبدأ يشعر بأن الأدوار التي كان يتولاها أدوارًا ثانوية
لا قيمة لها. وأنه عندما قرر أن يثور انفتحت أبواب الجحيم عليه. لم يسانده أحد. بل
من كان من المفترض منهم المساندة نصحوه بالانتقال والعودة مرة أخرى إلى بلدته
الجنوبية. فقرر - في نفس الوقت الذي كان يتم فيه ترتيب زواجها - الرحيل. ورحل، ثم
رحلت هي أيضًا بعد زواجها وسافرت مع زوجها إلى الدولة الخليجية وانقطعت أخباركل منهما
عن الآخر.
مرت سنوات نسي هو فيها
قلبه رغم كل من قابلهن وتعامل معهن في عمله وفي خارجه من جميلات تَأْسِرْنَ العين
والقلب. انغمس تمامًا في العمل وفي الدراسة بالتوازي، ثم أستولى عليه العمل تمامًا
وأخذه من كل شيء. تنقل من نشاطٍ لأخر، ومن مشروعٍ لمشروع. كان لا ينام في بيته
أوقاتًا كثيرة. حتى أبيه الذي كان يعاني من مرض ليس خطيرًا حسب تشخيص الأطباء -
الذين ثَبُتَ خطأهم فيما بعد - تُوفى على حين فجأة دون أن يراه في الأيام الثلاثةِ
الأخيرة لإنشغاله الشديد. حتى أنه تلقى خبر الوفاة أثناء وجوده في اجتماع عمل. بعد
وفاة والده، استمر أيضًا لسنوات يعمل ويعمل ويعمل فقط. إلى أن صدمته حادثة أثناء
عودته يومًا من احتفالية شارك فيها بفرقٍ فنية من أطفال المدارس كانت مثار إعجاب
الجميع في التنظيم، وجودة التدريب ومغزى العمل المقدم. في طريق العودة بأتوبيس
يحملهم، وأثناء مروره من سيارة في أحد المنحنيات قبل الوصول لبلدته بحوالي سبعة
كيلومترات. فاجأتهم سيارة مُسرعة في الاتجاه المقابل. فحدث الاصطدام، وانقلبت
السيارة الأتوبيس على جانبها تنزف السولار من ثقوبٍ كثيرةٍ حدثت في خزانها.
كانت نتيجة الحادث،
الذي تم إنقاذ الجميع منه قبل أن تشتعل السيارة، إصابات متنوعة: كسور للبعض، ورضوض.
وجروح في مناطق متفرقة من أجسام البعض الأخر. أخطر هذه الذه الإصابات كانت لمُعلمة
دخل مقبض باب السيارة في جانبها الأيمن عندما سقطت عليه مع الانقلاب الذي حدث
للسيارة. مما استدعى تحويلها للمستشفى الجامعي في محافظة أخرى قريبة.
خَرَجَ
هو من هذا الحادث شخصًا غير مختلف كثيرًا إلا في إصراره على الرحيل من مكان عمله
الحالي لمكانٍ آخر. بعدما وجد عدم اهتمام من المسئولين فيه بمن تعرضوا للحادث
ومنهم هو. كان رد فعله بعد الحادث مباشرةً وبعد ذهابه بمن نجوا بدون إصابات بدنية
إلى منازلهم في قريتهم القريبة أن دخل غرفة خالية في مستوصف القرية التابع لمكان
عمله، وأغلق بابها عليه من الداخل وطفق يدق الحوائط من حوله بيديه وهو يصرخ ويبكي
ويتساءل: "ليه ... لييييه... ليه يا رب؟ طيب لو أنا استاهل الأطفال اللي
معايا مكانوش يستاهلوا التجربة دي ... ليييه؟؟"
سقط على الأرض باكيًا،
مفرغًا كافة انفاعلاته. ثم بعد مرور حوالي نصف الساعة قام وهو يمسح دموعه التي
تساقطت في غزارة على جانبي وجهه بظهر يده. محاولاً إخفاء آثار الدموع التي ذرفها، ومتمتمًا
"أشكرك يا رب أنها وصلت لحد كده، كمل جميلك واكتب السلامة للي راحوا
المستشفى، سامحني يا رب" .. ثم خرج من الحجرة على جَلَبةٍ لأسرةِ طفلةٍ
أتت بابنتهم التي تبكي وهي تُمسك بقدمها المتورمة.
سأل، "خير ... فيه إيه؟"
فأجابت أمها باكية أن قدمها مكسورة وأنها ما كان يجب أن تأتي إلى هنا بل تذهب
فورًا للمستشفى. طمأنها على قدر استطاعته وبداخله جبال من القلق. وعرض عليها أن
يذهب بهما إلى المستشفى. إلا أنها قالت "لا، أخوها نزل المدينة يحجز لها
عند دكتور عظام واحنا رايحين له." فأصر أن يذهب معهما أيضًا.
في الطريق، وهو يركب في
الصندوق الخلفي للسيارة ربع النقل التي تقلهم من القرية إلى المدينة، انتبه إلى
الدم الذي يُغرِق قميصه. وإلى إصبعه الخنصر الأيمن الملتوي. كانت الدماء لطفلٍ
جُرح وسقط فوقه عندما انقلبت السيارة فأغرق بدمه قميصه. اتصل على أخيه في بيتهم
بالمدينة، بينما السيارة تطوي بهم المسافة القصيرة. طلب من أخيه أن يأتي له من
البيت بقميصٍ نظيف أو (تيشيرت) ليرتديه. وأخبره أن يلاقيه في عيادة دكتور العظام
الذي هم ذاهبون إليه. تملك القلق من أخيه، وأخبر والدتهما التي جاءت معه لعيادة
الطبيب متخوفة أن يكون ابنها قد حدث له مكروه أو إصابة. قابلهم عند نزوله من
السيارة، وقبل أن يسألاه صرخ فيهما "متقلقوش.. متقلقوش، أنا كويس .. أنا
سليم أهه" ورفع يديه وسار ناحيتهم وتركهم يتفحصون جسمه إلا أن أمه صرخت
حين رأت بقعة الدم على قميصه فخلعه في الشارع أمامها وقال "يا ستي أنا
سليم الحمد لله، ده دم حد اتصاب وأنا حملته للاسعاف مش دمي، أنا سليم أهه"
ثم دار بجسمه ليرياه وهو شبه عاري حتى يطمئنا عليه. ثم دخل مسرعًا مع أهل الطفلة
المصابة وحجز لنفسه كشف وأشعة ليفحصه الطبيب الذي قال حين رآه: "آه .. لا
مفيش حاجة.. سليمة سليمة،، مع الوقت هترجع عُقلة الصباع لوضعها طبيعي تاني
متقلقش.. إيدك سليمة". ثم خرج من حجرة الكشف وظل منتظرًا رجوع عقلة اصبعه
الخنصر إلى وضعها الطبيعي لسنوات. لكنها ظلت علامة تذكره كلما رآها بالحادثة،
وبقراره الذي كان كالقيامة حين اتخذه، ونفذه.
تعليقات
إرسال تعليق